تاريخ بانياس الساحل

 

يعتقد أن تاريخ مدينة بانياس يعود إلى حقبة ما قبل التاريخ.[1] كانت فيما مضى مدينة فينقية تتبع مملكة أرواد،[2][3] حيث مثَّلت في ذلك العصر ميناءً بحرياً هاماً. عُرِفت المدينة في العهد الإغريقي باسم بالانيا، ثم تغيَّر اسمها فميا بعد إلى بلنياس، أي الحمامات (وقد عثر بالفعل على عددٍ من الحمامات الأثرية قرب منبع نهر بانياس).[1] وعرفت بذات الاسمين بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية على الشام، وحظيت في ذلك العهد ببعض الاستقلالية، لكن في عهد الإمبراطورية البيزنطية تغيَّر اسمها إلى ليوكاس.[4] وقد عثر في سنة 1860 الآثاري آرنست رينان على نقشٍ باللغة اليونانية في معبدٍ صغيرٍ بني على ضفة نهر بانياس اليمنى، يقول الآتي: «على شرف أهل بانياس في سورية المستقلين قام أنتيوخوس الملقب بديفيلوس ابن مينودور بتشييد هذا المعبد وإقامة التماثيل على نفقته الخاصة». كما عثر بالمدينة على نقودٍ وميداليات رسم عليها الإلهان الإغريقيَّانجوبيتر وباخوس، ممَّا يدلّ على ديانة أهلها في القدم. وقد حظيت المدينة في العهد الهلنستي بأبنية بلدية ومجلس شيوخ، فمن نقوشها التي تعود إلى القرن الثاني الميلادي: «أصدر مجلس الشيوخ والشعب مرسوماً بإقامة التمثالين تكريماً لفيليب ابن أنتيبا تروس لأبيه أنتيبا تروس ابن فيليب، كشكرٍ لأنتيبا تروس الذي قام بمساهماتٍ طوعيَّة، حيث مارس وظيفة مدير المعهد الرياضي بتألّق».[5]

مدَحَ أبو الفداء المدينة لكثرة أشجارها وفواكهها، كما تحدَّثَ عنها أسامة بن منقذ.[1] وقد جاء ذكر المدينة في كتاب معجم البلدان لياقوت الحمويّباسم بُلُنْيَاس، وجاء في وصفها:[6]

«بُلُنْيَاس: كورةٌ ومدينةٌ صغيرةٌ وحصنٌ بسواحل حمص على البحر، ولعلَّها سُمِّيت باسم الحكيم بلنياس صاحب الطلمسات.»
سيطر الصليبيون على قلعة المرقب وبانياس، ولم يستعدهما المسلمون حتى سنة 1285.

وفي حقبةٍ ما خلال عهد الحكم الإسلامي لبلاد الشام أو ما سبقه شُيِّدت على مقربةٍ من المدينة - على مسافة 5 كيلومترات إلى الجنوب منها - قلعة المرقب ذائعة الصّيت، للإسهام في حمايتها هي ومنطقة الساحل المحيطة بها، وجاء أوَّل ذكرٍ للقلعة في السجلات والكتابات العربية عام 1047م.[7][8]لكن بعد الحملة الصليبية الأولى وقعت المدينة - ومعها قلعة المرقب - تحت سيطرة الصليبيين في عام 1098م (حوالي 492 هـ)، فألحقت بإمارة أنطاكية،[9] وقد أطلقوا على المدينة إذ ذاك اسم فالينيا، وأصبحت في تلك الحقبة مقرَّ أبرشية تابعةٍ لبطريركية أنطاكية.[1][4] بعد السيطرة الصليبية، وضعت بلنياس وقلعة المرقب تحت سلطة عائلة مانسوير، ونُقِلت فيما بعد إلى فرسان القديس يوحنا عام 1186، وقد حاول صلاح الدين الأيوبي أن يفتحها بعد فتحه أغلب الشام، إلا أنَّه فشل في ذلك. ولم يستعد المسلمون المدينة والقلعة حتى سنة 1285، عندما فتحت على يد السلطان قلاوون.[4][5]

عثر في المدينة سنة 1924 على آثار وبقايا أعمدة من الغرانيت وتيجان الأعمدة، كما عثر فيها لاحقاً على آثار مسرح روماني من القرن الأول الميلادي. وقد اكتشف في سنة 1986 مدفنٌ جماعيٌّ بمدرسة ابن خلدون من القرن الأول أيضاً فيه خمس قبورٍ فرديَّة وعددٌ كبيرٌ من الأدوات والقطع الأثرية، تشمل تشمل قناعاً وبضعة خواتم وزوجاً من الأقراط كلّها من الذهب، بالإضافة إلى عددٍ من النفخات الزجاجية والحلقات الحديدية، وعرى وأرجل طاولة وحمَّالة سرج وأدوات طعامٍ من البرونز، فضلاً عن وريقات ذهبية وبقايا قفل برونزي. كما اكتشف مدفن آخر في سنة 1988 من القرن الأول الميلادي بتلة فارس قرب الطريق العام في بانياس، حفر بشكل قبة في التربة البركانية، فيها ستّ معازب بها توابيتٌ فخارية وخشبية.[5] بالنسبة للعملات النقدية ببانياس، فقد عثر عليها من مختلف الحقب كالرومانية والإسلامية والصليبية،[3] وقد كانت تمثّل بعضها صورة هرقل وقد ارتدى فرو أسد وأمسك بيده دبوساً، وأخرى الإله بعل راكباً عربة وتُحِيط به هالة شعاعية، وفي بعضها إلهة الكون نيمن .[5] وفي سنة 1994 جرت أعمال تنقيبٍ في مزارع على أوتوستراد بانياس - اللاذقية قرب المشفى الوطني، وعثر نتيجةً لها على أرضية فسيفسائية تعود إلى القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديَّين. كما عثر في تنقيبات السنة ذاتها على قناة مائية عمقها 3 إلى 4 أمتارٍ كانت تصبُّ في البحر قرب "صخرة المنشحة".[9]

كما أنَّ من آثار المدينة البارزة برج الصبي للحراسة المبنيّ بالقرب من قلعة المرقب،[10] وقلعة القوز التي باتت حياً سكنياً اليوم،[11] وخان بيت جبور الأثري القديم،[12] وقصر تحوف الأثري المهدوم.[13]

[عدل]العصر الحديث

أصبحت تُعرَف المدينة ابتداءً من العهد العثماني باسمها الحاليّ بانياس، وقد جُعِلت في ظلّه مركز قضاء بانياس الذي امتدَّ من نهر الحصين شمالاً إلى قرية الحويز جنوباً، ومن المتوسط غرباً إلى قرية الدالية غرباً. وقد أقيم فيها خلال نهاية القرن التاسع عشر الميلادي بناء السرايا، تبعه جامع ومدرسة، ومساكن ومحال للمهاجرين من ريف المدينة إليها. وأصبحت المدينة في تلك الفترة مركزاً بارزاً لصناعة الحريرفي المنطقة، وأنشأت فيها ثلاثة مخانق لإنتاجه كانت تجتلب شرانق الحرير من كل المناطق المُمتدَّة من أنطاكيا شمالاً إلى صافيتا جنوباً.[4]

قصر تحوف الأثري، كان قبل هدمه أحد أهمّ آثار العهد العثماني في المدينة.

شهدت بانياس في الثمانينيات إضراباً لتجَّار المدينة احتجاجاً على مجزرة حماة والحملات العسكرية الأخرى في مدن البلاد ضدّ المدنيين، إلا أنَّ ذلك أدَّى إلى اعتقال الكثير منهم قسراً على يد الأجهزة الأمنية.[14] وقد ربي في بانياس الشيخ عبد الستار عيروط، الذي كان أحد مشاهير علماء منطقة الساحل بسوريا، وقد أيَّد الانتفاضة ضد حافظ الأسد في الثمانينيات، فاعتقل باللاذقية في سنة 1980، ومنذ ذلك الوقت وهو يُعَدّ مفقوداً، فيما يعدُّه البعض "شهيداً".[15][16]

فُرِضَ في المدينة منذ الثمانينيات - وعلى غير المدن السورية الأخرى - الاختلاط بالمدارس بين الجنسين، فضلاً عن حظر الحجاب بالمدارس. وقد احتجّ أهالي المدينة السنّة كثيراً على هذه القوانين، وقامت بعض الفتيات السنيات رداً عليها بارتداء ستراتٍ طويلةٍ بالمدارس تصل إلى القدمين فوق الزي المدرسي الموحد، وقد أثار الأمر سخط مديري المدارس، فاستدعوا الأمن السياسي بعد رفض الفتيات خلع السترات، والذي اجتمع بدوره مع الأهالي، وفي النهاية كانت التسوية أن تلبس الفتيات منذ ذلك الوقت فصاعداً زياً مدرسياً طويلاً يصل إلى القدمين. وبمبادرة أخرى قامت فتيات في سنة 2000 بدخول مدارسهنّ محجّبات، فطردن من مدارسهن، وحدثت بلبلة كبيرة بالمدينة على إثر ذلك واجتمع الأهالي بالمدرسة للاحتجاج، وانتهى الأمر بإلغاء قانون منع الحجاب بالمدارس، غير أنّ الاختلاط لا زال سارياً حتى اليوم.[14]

كانت الصوفية على الطريقة الشاذلية (وبشكل أقل الطريقة النقشبندية) هي المنهج السائد بين شبان المدينة خلال الثمانينيات والتسعينيات، وحازت حلقاتها إقبالاً كبيراً بين الأهالي، فأصبحت الحلقات الدينية الأساسية بها مع تضييق السلطات على الجماعات المتديِّنة الأخرى. لكن منذ مطلع القرن الواحد والعشرين أخذت أعداد المتصوّفين بالانحدار، على حساب منهج السلفية الذي حلّ محل الصوفية عقب حرب أفغانستان واحتلال العراق، فأصبح المنهج السّائد بالمدينة والأكثر شعبيًّةً وشيوعاً فيها.[14]